يميزالفيلسوف الفرنسي بول ريكور بين ثلاثة أنواع من الأحداث التاريخية : أولاً: حدث ذو معنى في ”حده الأدنى“، أي حدث عادي واضح المعالم ولكن دون أي تأثير على مجرى التاريخ ولا في تشكيل الهوية الجماعية. ثانياً: حدث يندرج ضمن نمطية معينة ويشكل نوعاً من ”الشيما“، مما يفقده طبيعته الأساسية كحدث. أما النوع الثالث: فهو حدث استثنائي وغير مألوف أو حدث بمعناه العلوي، مما يجعله يلعب دوراً هاماً في إعادة تشكيل هوية جماعية جديدة. يعطي ريكور أمثلة معينة لذلك النوع من الأحداث في التاريخ الأوروبي، مثل المحرقة التي تعتبر حدثاً غير عادي مشكلاً لهوية أوروبية جديدة ولكن بشكلها السلبي. بينما تعتبر عملية ”الاستيلاء على الباستيل“، حدثاً استثنائياً ساهم في تأسيس هوية جديدة ولكن بالمعنى الايجابي.
يستخدم ريكور في تحليله للتاريخ مفاهيم أخرى، مثل التاريخ ”المستمر“ والتاريخ ”غير المستمر“، أو ”المنقطع“ ويعطي كمثال على التاريخ المنقطع ”سقوط جدار برلين“، الذي كان محورياً ومشكلاً لهوية ومرحلة جديدة من تاريخ أوروبا.
كما يميّز ريكور بين التاريخ، الذي من المفترض أن يخضع إلى مقاييس علمية وأكاديمية وأكثر موضوعية، و”الذاكرة“ أو ”الذاكرة الجماعية“ التي تتسم أكثر بالذاتية والتي تتشكل من عدة عوامل بيئية وعائلية وسياسية واجتماعية وحتى نفسية. وبالتالي فإن عملية تصنيف حدث تاريخي ”كاستثنائي“ أو ”عادي“ تخضع لتفسيرات متعددة تدمج في بعض الأحيان بين التاريخ والذاكرة. كما أن هناك أحداثاً تطمس عبر ”النسيان“ وهو الوجه الآخر للذاكرة. ونقيضاً لها في نفس الوقت، كما أن هناك تبايناً في عملية تقسيم التاريخ إلى مراحل مختلفة بين مؤرخ و آخر.
وبينما لا يمكننا أن نعتبر أن هناك تاريخاً ”موضوعياً“ بالمطلق، إلا أنه يمكن أن نعتبر أن هناك ما يمكن أن نسميه ”إجماعاً“ بين علماء التاريخ حول مفصلية حدث أو آخر. مما يؤدي إلى اعتماد بعض الأحداث كأحداث في مستواها ”العلوي“، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الحدث لا ينشأ بشكل مفاجئ ولا ينتهي بشكل مفاجئ. بل تسبقه تراكمات وأحداث تبدو نمطية أو عادية وتتبعه أيضاً أحداث أخرى قد تبدو عادية. وهكذا نرى أن ”عمليات إحياء الذكرى“ في العالم كله أصبحت تعبرعن الاعتراف باستثنائية حدث ما، من قبل جماعة ما، مثل ”الثورة الفرنسية“ من قبل فرنسا أو الاحتفال ”بالاستقلال“ أو بنشأة ”الجمهوريات“ أو ”بعقد الاتفاقيات“ بالنسبة لعدة دول إلخ.
وعلى أساس هذا التصنيف المنهجي، رأينا من الضروري البدء بطرح تساؤلات حول طبيعة الأحداث، التي تسلسلت عبر قرن من الزمن في العالم العربي. وذلك في محاولة لتحديد ما هي الأحداث العادية وما هي الاحداث المحورية والاستثنائية و المفصلية، التي قد تشكل رمزاً وعلامة في مسار التاريخ العربي وتساهم في تشكيل الهوية. ورأينا أنه من الضروري فتح ملفات وصفحات مغلقة من هذا التاريخ، وخاصة تلك الأسئلة التي طرحت ولكن بقيت دون إجابة، إلا بالنسبة لأوساط صغيرة من الأخصائيين، وذلك من أجل استيعاب الحاضر في محاولة لتحديد أين ”الاستمرارية“ وأين ”الانقطاع“ في هذا التاريخ .
فبعد قرن من انعقاده، ارتأينا إمكانية اعتبار المؤتمر العربي الأول، (والذي يعرف أيضاً بالمؤتمر القومي العربي أو بالمؤتمر العربي السوري)، والذي قد التأم في قاعة الجمعية الجغرافيّة الفرنسية في باريس من 18 إلي حزيران ( يونيو) من عام 1913، حدثاً استثنائياً بمعناه ”العلوي“. وذلك نظراً لاعتبار الكثير من المؤرخين والمفكرين، أن الحركة القومية العربية تعود بجذورها إلى تلك السنوات الحاسمة والحرجة من حياة الإمبراطورية العثمانية. أي في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى، حيث كانت الإمبراطورية قد شهدت ثورة بقيادة جمعية الإتحاد والترقي في عام 1908، مما شجع المواطنين العرب على المطالبة بحقوقهم الوطنيّة، وبحكم لامركزي في إطار الإمبراطورية. كما شهدت هذه المرحلة مفارقة تاريخيّة هامة، وهي بداية تقهقر الإمبراطورية العثمانية من جهة وبداية تبلور الحركة القومية العربية من جهة أخرى، والتي كانت تتألف آنذاك من جمعيات سرّيّة ثوريّة أو إصلاحية. وكان معظم أعضائها من سوريا الكبرى (لبنان، وسوريا وفلسطين)، واسطنبول، ومصر.
وبينما كانت الولايات العربيّة مهدّدة في تلك الفترة بتوسع استعماري أوروبي، مع تزايد التوتر بسبب الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، لم تبد جمعية الإتحاد والترقي قادرة على ضمان حمايتها واستقلالها. مما أدى إلى قيام مجموعة من الطلاب العرب المقيمين في باريس، والمنخرطين في بعض هذه الجمعيات، ولا سيما جمعية "العربية الفتاة"، بالدعوة لانعقاد مؤتمر للتعبّير عن رغباتهم وتطلعاتهم بالاستقلال في إطار اللامركزية. وكذلك من أجل مناقشة قضية الإصلاحات في إطار الإمبراطورية.
وقد ترأس هذا المؤتمر عبد الحميد الزهراوي الذي كان صحفيا ومفكراً بارزاً في ذلك الحين. كما كان منتميا إلى حزب اللامركزية، الذي كان مقره القاهرة. وقد قدم مداخلة افتتاحية للمؤتمر في جلسته الأولى، التي انعقدت يوم 18 حزيران 1913. وكان عنوانها ”تربيتنا السياسية“. جاء فيها ”أيها السادة، إن الفلك دائر وبدورانه يكبر الصغير ويهرم الكبير وتتحول الأحوال كلها. ولا يبقى شيء على حاله أبداً. فالإنسان في الحقيقة رهن الحوادث وتحولات الاحوال. ولكن كما يتخذ الإنسان التدابير عند وقوع الواقعات الطبيعية كهبوب الريح مثلاً، كذلك يستطيع بقدر الطاقة البشرية، أن يتخذ تدابير بناءاً على الحوادث البشرية كانتباه الأفكار أو كرقادها. فالشيء الذي يقال له سياسة هو ممارسة النظر في الحوادث من كل جهاتها ليكون التصرف على حسبها “ ويضيف "موضوعي هو ”تربيتنا السياسية“ ولست أدري، هل يحسن صدور هذه العبارة من فم شرقي ما زالت روح الحكم المطلق مالئة محيطه أم يعد منه ذلك جسارة في غير محلها“.
في جوهر فكر الزهراوي فإن مفهوم ”الجماعة“ يعني أيضاً ضرورة وجود ”تربية سياسية“ للجماعة، لأن ”الجماعات الذين لا تربية سياسية عندهم لا تثبت مصالح عامة لهم. وقد كان الأكثرون منا على جهل بهذه الحقيقة ولكن توالي المصائب على البلاد مع توالي الزمان قد جعلهم يلمسون هذه الحقيقة باليد. ولذلك كثر اليوم المائلون لمؤازرة المشتغلين بالسياسة بعد أن كانوا لا يذكرون“ ولذلك فإن ”الامة التي يشيع فيها العلم تصبح عارفة أن الحكومة إنما وجدت لمصلحتها وأن من تمام الحكمة في وجود الحكومة أن يوجد في جوارها مراقبون من ابناء الأمة يساعدونها إذا صلحت ويقفون في وجهها إذا أخذت تفسد ".
وقد أشار الزهراوي في كلمته إلى قول ابن الوردي:" إن نصف الناس اعداء لمن ولى الأحكام، هذا إن عدل“، مضيفاً إن ”كان هذا مقتضى طبع الناس مع الحكومات في حال عدلها، فكيف يكون حالهم إذا كانت ظالمة؟ إنهم يكونون كلهم أعدائها، إلا أذنابها المنتفعين بوجودها والذين يخشون فوات المنفعة بزوالها“. معبراً بذلك عن فهمه العميق لأهمية وجود معارضة في وجه كل سلطة.
ثم افتتح الجلسة الثانية، عبد الغني العريسي، الذي تحدث عن حق العرب ”أن يكون لهم على رأي كل علماء السياسة دون استثناء حق جماعة، وحق شعب وحق أمة“. وبالتالي حق الجنسية وحق المشاركة السياسية بنسبة عادلة في كافة السلطات التي عرفها ”بقوى الدولة الثلاث“ أي:
1-”السلطنة“ 2- ”القوة التشريعية“ و 3- ”القوة الإجرائية“.
وجاء في أواخر مداخلته ”وقصارى القول إننا نعتبر أن حكومات الإستانة غير مستوفية الشروط والأركان من وجهة العدل، لأن حقنا غير محفوظ لأن الحكومات في نظر ”اعلان حقوق الانسان“ لا تكون مشروعة، الا إذا احترمت حق الأفراد فمن باب أولي حق الجماعات والشعوب“.
أما المتحدث الثالث فكان ندرة بك مطران الذي تحدث عن اللحمة التاريخية بين العرب أكانوا مسلمين أو مسيحيين. ومن الجدير بالذكر أن تكريس فكرة المساواة والشراكة بين الأديان عبر التصميم بالمشاركة المتساوية بين المسلمين والمسيحيين العرب، كانت من أهم أهداف المؤتمر العربي الأول.
واختلفت الآراء في ذلك الحين حول الهدف من هذا المؤتمر الذي كان يشمل عدة تيارات سياسية تتفاوت في أهدافها بين الاصلاحية منها والأكثر راديكالية، وبين المتهمة بالموالاة للغرب وبين التي قدمت والتي لم تقدم تنازلات للحكم العثماني، كما نشبت بعض الخلافات بين التيارات المتعددة بعد انعقاد المؤتمر وخاصة بسبب عدم التزام الجانب التركي لمطالبه: تفاصيل كثيرة عالجها المؤرخون من بين العرب وغير العرب، تستحق في يومنا هذا إعادة النظر على ضوء ما يحدث اليوم .
ومن الجدير بالذكر أن عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر العربي الاول وعبد الغني العريسي، قد دفعا ثمناً باهظاً من أجل آرائهم حيث كانا من بين الرجال، الذين اعدمهم شنقاً جمال باشا في عام 1915 وعام 1916 في الساحات العامة، ومنها ساحة الشهداء في بيروت، التي سميت هكذا إثر هذه الأحداث. وقد وصف المفكر العربي ناجي علوش، عبد الحميد الزهراوي (الذي ولد في حمص عام 1871) في كتاب مخصص لسيرته، (نشر عام 1995)، على أنه ”مناضل رزين“ يعمل من أجل التجديد بلا هوادة، ويقاتل الظلم والفساد بلا تردد. ويخوض المعارك بلا توان. ولكنه يعمل دون ضجيج ويكره العنجهية وحب الظهور ويحاسب نفسه، في كل ما يقول ويفعل ولا يحب الدعاوى“ مضيفاً ”ولذلك نال احترام الجميع، وثقة أصحاب العقل والموقف السليم، وسار بلا تردد ولا خوف إلى حبل المشنقة“. ولكن للأسف إن ”عبد الحميد الزهراوي أُهمل، كما أُهمل رفاقه من المناضلين والشهداء. وظل تراثه مبدداً ومجهولاً، من يوم استشهاده إلى يومنا هذا“.
ومع أن المؤتمر العربي الأول لم يحقق آمال الشبابّ القوميين العرب، إلا أن انعقاده في باريس في ذلك الحين، اعتُبر انعكاساً للأحوال السياسيّة والاجتماعيّة السائدة في العالم العربيّ في بداية القرن العشرين، وتعبيراً عن العوامل ذاتها، التي استمرت في التأثير على مستقبل الدول المختلفة في العالم العربي طوال القرن. ومن أهمها استمرار أنواع مختلفة من ”الحكم الاستبدادي“ في المنطقة أكان بغلاف قومي أو إسلامي وبتحالفات متنوعة أكانت خارجية أو إقليمية.
وعلى هذا الأساس، اتخذنا هذه المبادرة بالدعوة لمؤتمر في باريس في الرابع الخامس من حزيران من هذا العام، ليس فقط لإحياء ذكرى مئوية المؤتمر نفسه، ولكن أيضاً لإحياء ذكرى الرجال والنساء الذين عاصروا هذا العهد الذي عرف أيضاً بعهد التنوير، وخاصة الرجال الذين دفعوا أرواحهم ثمناً لمعتقداتهم التي كانت تتمثل بجوهرها في الحرية والعدالة.
بيد أن الهدف الندوة التي عقدت في معهد العالم العربي في باريس في يومي الرابع والخامس من حزيران من هذا العام، والتي شاركت فيها نخبة من المؤرخات والمؤرخين ومن الباحثات والباحثين، معظمهم من العالم العربي، بالمشاركة مع بعض الباحثات والباحثين الفرنسيين المختصين بشؤون المنطقة العربية. قد تخطّت، في الواقع، مسألة إحياء الذكرى، لتشمل القيام برصد علمي ونقدي ومتعدد التخصصات، لتأثيرات القومية العربية على المنطقة بأكملها. أكان ذلك من زاوية العلاقات الدولية والتحالفات الجيواستراتيجية، أو عملية بناء الشرعية للسلطات الوطنية وأنماط الحكم المختلفة، أو التحولات التي طرأت على الثقافات السياسية للمجتمعات العربية والتي شجعت التنوع من جهة والإقصاء والإستثناء من جهة أخرى.
كما طرحت خلال الندوة تساؤلات هامة حول الأسباب، التي أدت إلى الاختفاء التدريجي ”للعهد الذهبي“ للقومية العربية. وتطرقت إلى الاشكاليات الجديدة التي يطرحها ”الربيع العربى“، مثل التفكيك الذي أصاب ”الفضاء العربيّ“، وطبيعة العلاقات التي تربط بين أجزائه والتعبير السياسي عن تلك الروابط. وقد رأت معظم المداخلات أنه قد يكون من الخطأ، أو من غير المنطقي، أن يستنتج، وخاصة في ضوء التطورات الراهنة، أن القومية العربية التي تجسدت بأنظمة دكتاتورية ستؤدي إلى زوال الفكرة من أساسها، لتستبدل بأفكار سياسية وعقائد ”أخرى“. لذلك يصبح من الضروري القيام بمجهود نظري وتفكير تاريخي معمق لتقييم المسارالمتعرج للحركة القومية العربية، وأثر ذلك على المجتمعات العربية، والتساؤل، في الوقت نفسه، عن مدى أهمية وضرورة استمرارها. ولكن بشكل متجدد بناء على منهحية قادرة أن تستخلص الإيجابي وتتخلص مما هو سلبي في مسار القومية العربية، مثل الإخفاقات التي سمحت بظهور أنظمة قمعية ومؤسسات تفشى فيها الفساد، وذلك عبر الدمج بين الركائز الأساسية للفكر القومي العربي، مثل اللغة والثقافة العربية المشتركة ومواطنة عربية مبنية على أسس العدالة والحرية والمساواة والعلم وعدم الإقصاء على جميع المستويات وذلك في اطار مشروع وطني وتحرري شامل.